الفن التائِه في الملامح

تُسافر بنا الفنون نحو آفاق لا تنتهي، وتُمسك بالجانب الضائع فينا لتأخذنا الى عوالمها البهيجة مساهمة بذلك في إعادة تشكيل الجوانب المبعثرة في أعماقنا.. ولذلك نتسمر واقفين أمام روادها لبرهة من الزمن نشعر فيها بالوحدة رغم زحمة المكان.. نصمت.. ونترك ملامحنا وملامحهم تتحدث رغم الصخب الذي يُحيط بنا وبهم.

هي عندما ترسم لم تعد في المكان! وهو عندما يعزف على العود لم يعد هنا! وهذا عندما يشرع في إلقاء قصائده فقد فرقنا المكان! وذاك عندما ينكب على دفتره ليكتب لم يصبح معنا في المكان!

بالفعل وبمجرد أن ينطلق رواد ورائدات الإبداع في رسوماتهم وعزفهم وكتاباتهم فهم حتماً قد غادروا الواقع الحي نحو عالم الخيال وسافروا عن عالم الوعي الى عوالم التجلي، ومضوا من اللحظة الحقيقية الى عوالم الإلهام التي تغيب عنهم فيها الأصوات لتغدوا ملامحهم مختلفة، وتبدوا عيونهم شاخصة يحدقون بها بعيداً نحو متعة الحياة.

يدغدغك العازف بمعزوفة تدهش كل شيء فيك، وعندما تنظر اليه تراه يسكن في باحة التركيز ولا ينظر إليك، بل إنك سترى تعددية المشاعر تظهر تباعاً على وجهه، وعندما تتمعن أكثر في ملامحه ستجد ان هذا الذي كان في حالته الطبيعية قبل العزف قد تحوّل بعده الى أحوال مختلفة، ودخل في تجليات سامية، وأصبح في حالة لا يستطيع وصفها لك سوى النغم البديع الذي تسمعه منه.

تبدوا غارقة في بسماتها بينما تُمسك بريشتها لتُكمل رسمتها هي لا تتبسم لك وإنما تُظهر ابتسامتها لعالمها الداخلي للعالم الذي جعلها تُظهر لنا هذا الإبداع، للطاقات الكامنة في أعماقها التي جعلتنا نذكر الله أمام روعة لوحاتها وجمال رسماتها.

جرب ولو مرة أن تتأمل في وجه شاعر أو شاعرة أثناء القاء القصائد ستجد بأنهم حتى لو كانت عيونهم عليك فإنهم لا ينظرون إليك،  وسترى بأن أحوالهم أثناء البوح بالشعر قد اختلفت كلياً عن أحوالهم الطبيعية! لقد حلّقوا في سماوات التِيه، وسافروا في عوالم الوصف البديعة.

وفي المُجمل يشترك أهل الفنون في كافة أشكالها ومجالاتها في لحظات التجلي التي تغشاهم جميعاً حينما يشرعون في تقديم تلك الفنون للناس،  وكأن العمل على ذلك الإبداع يستنزف طاقتهم، ويُخرج أعمق ما في أعماقهم.

هم لا يقدمون لنا هذا الإبداع فحسب هم يبوحون لنا من حيث لا نشعر، ويتحدثون معنا بلغة الفن، ويضيفون على الحياة طاقة متجددة تبعث رائحة الأمل في زوايا الكون، وتمنح العالم فرصة جديدة للحياة.


كتبه/ حمد الكنتي  



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رثاء عن الراحل معيض سعدون العتيبي رحمه الله

قصتي مع مرض السكر! #حمد_الكنتي

ملامح من حياة المرحوم الشيخ احمد اباتي رحمه الله