محطات من حياة الوجيه والأكاديمي الدكتور أحمد فال الكنتي رحمه الله

 رحل عن دنيانا الفانية في أواخر شهر صفر من العام الهجري 1446 المربي الفاضل والأكاديمي المعروف الدكتور أحمد فال ولد محمد ول محمد آبه الكنتي عليه رحمة الله وصلّت عليه جموع المسلمين في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ووري الثرى عليه رحمة الله بجوار الصحابة رضوان الله عليهم في مقبرة البقيع ودعواتنا له بالرحمة والغفران وجنة الرضوان.

في قلب مفازات صحراء موريتانيا بدأ نبوغ هذا الفقيد الغالي حينما افترش أرض محاظر المعرفة المشهورة في بلاد شنقيط، وبدأ يترعرع وسط حِلق العلم الشرعي وغيره من العلوم المتنوعة، مرافقاً للمشايخ الذين تعلم منهم الأدب قبل العلم، والتربية قبل تلقي المعرفة

ولم تتوقف طموحاته العلمية وشغفه المعرفي عند هذا الحد؛ إذ ذهب في رحلات علمية لتلقي العلم المُحكم المُؤصّل في مملكة المغرب وفي ليبيا متسلحاً بقوة الإرادة، وبعزمه الذي لا يلين نحو المعالي والقمم.

وتواصلت رحلته المُباركة في طلب العلم حينما حطت أقدامه في المدينة المنورة -التي كانت فيها بدايته وفيها كتب السطر الأخير لحياة مظفرة بالنجاحات - ليكرمه الله بالدراسة في الجامعة الإسلامية العالمية حتى حصل على شهادة البكالوريوس

ومن طيبة الطيبة ذهب الراحل رحمه الله في هجرة علمية نحو مكة المكرمة التي التحق فيها بجامعة أم القرى، لينطلق في رحلة أكاديمية في الدراسات العليا حقق فيها شهادتي الماجستير والدكتوراه بتميّز فاق فيه أقرانه، وبرهن على شغفه المعرفي، ونهمه العلمي، وطموحاته العالية عليه رحمة الله.

وبعد نيله للشهادات العليا تم تعيينه عضواً في هيئة التدريس بجامعة الملك خالد في أبها البهية جنوب السعودية، فأحب أبها وأحبته، وكانت جبالها الكبيرة ومرتفعاتها الشاهقة تشبه طموحاته العظيمة التي تجاوز فيها جميع المُمكنات نحو تحقيق المستحيل.

قضى الفقيد عليه رحمة الله قُرابة رُبع قرن من الزمان فوق جبال أبها يعلم الأجيال تلو الأجيال في هذه الجامعة العريقة، مًبقياً فيها سمعة طيبة عنه وعن الشناقطة عموماً

غارساً فيها ما يتحدى الزمن من قيم فاضلة ومبادئ نبيلة، أسأل الله أن يجعل كلما قدّم في خدمة المعرفة ثقيلاً في موازين حساناته يوم القيامة، ويدخله به سبحانه وتعالى الفردوس الأعلى من الجنة.

25 عام كان الراحل عليه رحمة الله يستيقظ فيها كل صباح ضارباً موعد عظيم مع خدمة العلم، ونشر المعرفة، ليس فقط عبر محاضراته القيّمة في الجامعة، وإنما من خلال اشتغاله أيضاً بتأليف الكُتب الثمينة وتقديم البحوث والدراسات والمشاركة في الملتقيات والمؤتمرات في سعي معرفي متواصل سخّر فيه الراحل رحمه الله جُلّ حياته لنشر العلم، وخدمة مُريديه.

والجميل في رحلته العلمية المباركة أنه رحمه الله لم يكن يفرض أحد على شيء، إذا كان رحمه الله قدوةً بأخلاقه العالية، وأسوة بخصاله النبيلة التي تُخجل كل من يلتقي به من جمال أخلاقه، ووضاءة مُحياه، وروعة تعامله، وقمة تواضعه، وسمو افعاله، ورفعة خصاله، وتلقائية لُقياه، وروحانية حديثه الذي لا يُملّ عليه رحمه الله.

وبعد أكثر من عقدين من الزمان في رحلة عملية علمية فوق قمم أبها أخذته خطوات العودة إلى مكة المكرمة التي واصل فيها الاشتغال بالعلم في مدينة (اقرأ) كان رحمه الله يقرأ ويكتب ويؤلف متواضعاً أمام العلم الذي كان شغله الشاغل دائماً

ورغم مشاغله العملية والعائلية - حيث كان رحمه الله أباً لعدة أبناء كرام وبنات كريمات، وجداً للأحفاد والحفيدات ورمزاً لأُسرة مُمتدة كل فرد فيها يواصل نجاحاته الخاصة - إلا أنه رحمه الله لم ينسى قبيلته التي كان من أبرز وجهائها وأعلامها، ويشارك في جميع جلساتها، ويدعمها في مُلّماتها، ويساهم في حلّ مشكلاتها، مُحققاً بذلك كامل مسؤوليته المجتمعية لا يريد من أحد جزاء ولا شكوراً، كتب ربي ذلك في ميزان حسناته عليه رحمة الله.

ولأن بداياته رحمه الله في المملكة كانت في المدينة المنورة التي شُغِفَ بها حُباً، فكان حنينه لها دائم وشوقه إليها مستمر، ومن لا يُحب طيبة الطيّبة التي تطيب فيها القلوب وتطمئن فيها الأفئدة

فكانت هجرته من جنوب المملكة إلى شمالها هي الهجرة الثانية لمدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم التي حينما وصلها، وتنفس عبير روحانيتها الزكية قال لأهله (إنا هنا ماكثون) مؤكداً لهم عليه رحمة الله أنه لن يُغادر طيبة الطيبة حتى يلقى الله، وقد تحقق له ذلك رحمه الله برحماته الواسعة وأسكنه فسيح جناته.

وقبل سفره الى طابة كانت قد بدأت بوادر التعب ومؤشرات المرض تُداهمه في مكة المكرمة، ورغم تردده على الأطباء ومعاناته الصحية إلا أن البسمة لم تُفارق مُحياه فقد كان رحمه الله لطيفاً مع الكل، حفياً بالجميع، عطوفاً على الأطفال، ودوداً مع من يعرفه ومن لا يعرفه.

 

وبعد هجرته الى المدينة المنورة أشتد عليه المرض وظل صابراً محتسباً ، وذاكراً ربه وحامداً له على ما أنعم به عليه من نعم لا تُعد ولا تحصى

وظل المرض يشتد أكثر فأكثر حتى حانت لحظة النهاية، لحظة الوداع المؤلم، لحظة الرحيل المُر حينما أسلم الروح لبارئها في أحد مستشفيات طيبة الطيبة نسأل الله له الرحمة والمغفرة، وأن يجعل الأمراض التي أصابته لسنوات كفارة له وأن يحشره مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أؤلائك رفيقا.

وإن رحل جسده عن دُنيانا الفانية فإن روحه الطاهرة لن ترحل من قلوبنا، وسنبقى ننهل من إرثه العلمي الكبير من خلال قراءة مؤلفاته القيّمة، واستصحاب نصائحه الثمينة، وتذكر توجيهاته الحكيمة، والدعاء دائماً له بالرحمة والمغفرة وإنا لله وإنا إليه راجعون.

قال الإمام الشافعي:

قد مات قوم وما ماتت فضائلهم

وعاش قوم وهم في الناس أموات!


كتبه/ حمد عبدالعزيز الكنتي


وكتب عنه الأستاذ بقسم السنة وعلومها بكلية الشريعة واصول الدين وعميدها السابق الدكتور: أحمد بن محمد الحميد هذه السطور:

(في السنة الجامعية الأولى لي طالبا في قسم أصول الدين من كلية الشريعة.. كان بعض طلبة المستويات العليا فيها يترددون على معارفهم من زملائي فتنعقد معهم الزمالة.. وكثير منهم من طلبة المعاهد العلمية التي كان طلبتها غالبا يتوجهون إلى كليات الشريعة وأصول الدين واللغة العربية والتاريخ وغيرها .. وعلى قوة مقررات الثانوية العامة في ذلك الإبان - وأنا من خريجيها - إلا أن مستوى اطلاع هؤلاء في العلوم الشرعية وآلاتها كان يفوقنا بكثير .. فكثير مما سندرسه في الكلية قد مر عليهم في دراستهم الأولية .. فكنا ننظر إليهم بعين الإجلال .. ويزيد بعضهم بمحاولة تقليد أساتذة الكلية فيكثر من الاستشهاد بالآيات والأحاديث والنقول عن ابن تيمية وابن قيم الجوزية رحمهما الله .. وقد يؤدي ببعضهم إلى التعاظم حتى على بعض الأساتذة المتعاقدين فيجدونهم حائطا خفيضا يحلو لجملة منهم ويجرؤ على تصنيف اتجاهه العقدي ربما بتشجيع من بعض المعيدين والمحاضرين الذين خلطوا بفورة الشباب في تصرفاتهم بين أن يكون باحثا أكاديميا - وهي وظيفته الحقيقية- أو واعظا أو محتسبا .. وفي بداية الفصل الثاني من السنة الأولى جاء أحدهم فسألنا عن أسماء الأساتذة الذين سيدرسونا في هذا الفصل فذكرنا صاحبنا - مدار حديثنا اليوم - فمس ذقنه الصغير ثم رفع أصبعه محذرا أن أستاذنا هذ على بدعة عقدية سماها  …؟ ! واقع الحال - وأنا في بداية الطلب - لا تحقيق عندي في معنى تلك  البدعة إلا رؤوس أقلام  دون مزيد تفصيل .

وهكذا دخل صاحبنا قاعة الدرس وفي القلب شيء منه.. نتيجة كلام صاحبنا فكنت إذا سمعت منه شيئا لم يرقني حتى في الأحكام الفقهية التي لا علاقة لها بأبواب العقيدة عللت هذا بالبدعة التي نبزه بها صاحبنا .. على الرغم من انبهاري بطريقته الفريدة في شرح الحديث فهو يدخل القاعة فيسأل من عنده قائمة الأحاديث المطلوب دراستها الصادرة من القسم المختص .. فيكتب على اللوح الحديث ..ثم يدير الكلام بلهجته الشنقيطية المحببة شارحا الحديث من جهة راويه وتخريجه ومسائله النحوية والبلاغية والفقهية .. مستخرجا فوائده وآدابه مستشهدا على كل ذلك من واسع حفظه آيات القرآن الكريم.. وأحاديث سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.. ومن كلام الصحابة والتابعين ومنظومات مختلفة في فنون العلم كأنما يقرؤها من كتاب .. بقي كلام صاحبنا في توصيف حال الشيخ ملازما لي حتى تبين لي تحقيق معنى تلك البدعة في المراحل المتقدمة للبكالوريوس ومن خلال القراءة الحرة والبحث الجاد .. وتبين لي براءته منها جملة وتفصيلا .. وتوثقت معرفتي به حين عينت معيدا ثم توليت وكالة القسم .. ثم رئيسا له .. وودت لو أن ذاك الزميل الذي كان صدى لمن ظن بهم معرفة وعلما .. وهم ما زالوا في أوائل مراحل طلبهم للعلم .. أو أنه أراد التزبب قبل التحصرم قد علم ما علمته فعرف قدر نفسه  ولم يجرؤ على قوله أبدًا تأدبا مع أساتذته .. وتثبتا مما يقول  لما  يقول .. وكم يجنى على كثير من الأعلام النبلاء من خلال أخذ الفكرة السلبية عنه سابقا .. فرسالته في الدكتوراه كانت لتقرير عقيدة التوحيد في ضوء الكتاب والسنة سمرة محببة لوحتها شمس الصحراء الكبرى .. ووجه أضاءه نور الطاعة .. ولسان فصيح لا يفتر عن ذكر الله . وعينان صغيرتان تنبيء عن ذكاء وفطنة .. سريعتا الدمعة حين يذكر ما عند الله والدار الآخرة .. وفقه واسع بعيد عن التشدد .. وفقه نفس لا تكلف عنده ولا تمظهر  .. عابد قلبه معلق بالصلاة كل حين لا تسل عن حسن صلاته ولزومه الصف الأول خلف الإمام .. محب للمملكة وأهلها وملوكها مثنيا عليهم .. داعيا إيانا إلى حفظ  نعمة الأمن والخير الذي تنعم به مملكتنا الغالية ..ظريف ظرف الكرام في ملبسه وكلامه .. كريم كرم من لا يخشى الفقر .. امتنعت من زيارته لما سمعت من حسن إكرامه لضيفه.. وأراه بعد أن جعلت الرواتب عن طريق التحويل إلى البنوك تتوالى عليه الاتصالات من ضعيف يطلب صدقة.. أو منقطعة تلتمس تسديد فاتورة الكهرباء .. أو أرملة منكسرة تعيل أولادها من جيرانه في مكة المكرمة التي جعلها مستقرا له حين تحين الإجازات  وبعد مغادرته أبها .. أعاتبه أن لنفسك ولمستقبل حياتك نصيبا .. خصوصا عندما يحين التقاعد فيقول لي أملك بعيد .. والطريق طويل .. والموت قريب.. وأمامنا يوم عظيم يحتاج لزاد عظيم .. وبعده جنة لمن سعى وعمل .. أو مزلق إلى قعر نار لمن فرط وقصر .. لا يرد سائلا ولا يمنع موجودا .. أنموذج للعلماء الأقدمين كان حقه أن تكون له حلقة علم يرحل إليه فيها الناس .. وكم كانت الإجراءات الدراسية والوظيفية تقف أمامه حاجزا عن تحقيق مراده واستفادة الطلبة منه فمن لم يعرفه يقول غلبته غفلة الصالحين.

هذا هو شيخنا وأستاذنا وزميلي بعد ذلك في العمل الدكتور / أحمد فال ولد محمد آبه الكنتي من رهط بني فهر القرشيين الذي ولد في نواكشوط عام 1944 وطلب العلم في محاظرها على طريقتهم المعروفة بحفظ القرآن الكريم ومباديء العلوم بمنظوماتها .. وتنقل في صحرائها بين محظرة وأخرى .. وارتحل كذلك إلى المغرب وليبيا لطلب العلم ثم قدم المملكة عام 1387 ودرس في الجامعة الإسلامية فتخرج فيها عام 1392 ثم حصل على الماجستير عام 1397 وكان عنوان الرسالة ( أحكام الزواج ونظام الأسرة ) ثم الدكتوراه عام 1403 وكان عنوان الرسالة ( تحرير العقل وتثبيت التوحيد في ضوء الكتاب والسنة )كلتاهما من كلية الشريعة بجامعة أم القرى،  وقد ذكر لي استفادته من لقاء ودروس سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ الأمين الشنقيطي والشيخ محمد أبي شهبة ، والشيخ محمد متولي الشعراوي ، والشيخ محمد الغزالي وغيرهم رحم الله الجميع وفي العام التالي عين أستاذا مساعدا بكلية الشريعة واصول الدين بفرع جامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية بالجنوب أستاذا مساعدا التي ضمت بعد ذلك في جامعة الملك خالد ومددت له الجامعة بعد تقاعده ثلاث سنوات ليغادر أبها أواخر شهر رجب من  عام 1407 وقد تخرج عليه جموع من طلبة الكلية وطلبة كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية ( العلوم الإنسانية لاحقا) لينتقل إلى مكة المكرمة مؤثرا جوار بيت الله الحرام .. ويكون منزله قبلة لبني جلدته وجيها مصلحا مسموع الكلمة عندهم ثم انتقل إلى المدينة المنورة مجاورا لينتقل إلى جوار ربه بعد أن أنهكته الأمراض الليلة المصبحة للأربعاء الموافق 24/ 2 / 1446 وقد جاوز الثمانين وصلي عليه في المسجد النبوي ودفن بالبقيع رحمه الله وغفر له وجعل الفردوس مثواه). انتهى كلامه.













تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

محطات من حياة الفقيد محمد محمود الهاشمي رحمه الله

محطات من حياة أبي عبدالعزيز الكنتي رحمه الله