محطات من حياة أبي عبدالعزيز الكنتي رحمه الله

 

منذ رحيل أبي عبدالعزيز الكنتي رحمه الله قبل عشرون عام كتبت عنه عدة منشورات، ولكنني الان وبعد رحيله بعقدين من الزمان، وبما يقارب ربع قرن أعدت ترتيب أوراقي لكي أكتب عنه رحمه الله ما يُبين شيء من ملامح حياته، تخليداً لروحه الطاهرة التي لم ترحل عنا للأبد عليه رحمة الله

ولد ابي رحمه الله بمدينة (أطار) في موريتانيا في مطلع الخمسينات الميلادية تقريباً، وترعرع هناك بين والده الشيخ: سيدي محمد الكنتي، ووالدته المُدّرِسَة العالمة والمُربيّة الفاضلة: فاطمة الأبيريية، أو كما تُحب أن تلقب بلقب (بنت المسلمين) عليها رحمة الله (من قبيلة أولاد ابييري)

وقد تربى على كثير مما تربى أبناء جيله الذين كانوا يذهبون الى المحظرة لتعلم القران الكريم، وتلقي بعض العلوم الأخرى.

وقبل ان يصل الى سن العشرين كان رحمه الله قد ذهب لدراسة علوم الكهرباء في مدينة (الزويرات)، والتي مكنته شهادتها، وخوّله إتقان مهاراتها في الالتحاق بالشركة الموريتانية العملاقة (سنيم) موظفاً في قسم الكهرباء

وأثناء ذلك كانت أمه رحمها الله قد قررت الهجرة الى مكة المكرمة من أجل مجاورة الكعبة المشرفة في رحلة مليئة بالتفاصيل المثيرة جداً، والتي سأحكي لكم ما وصلني منها في منشور خاص سأكتبه قريباً عنها بإذن الله

ولأنه رحمه الله كان مُتعلقاً كثيراً بأمه رحمها الله فقد قرر ترك عمله وبلاده، وكل شيء وغادر الى المملكة التي وصلها تقريباً في مطلع السبعينات الميلادية، ليلتم شمله مع أمه في مكة المكرمة عليهم جميعاً رحمة الله

وحينما وصل كانت امه رحمها الله قد بدأت تواصل رحلة التعليم بتدريس مجموعة من الطلاب والطالبات لمجموعة من العائلات المكية المهاجرة والساكنة، ومن ابرزهم ابناء وبنات عائلة الشيبي من بني عبد الدار سدنة بيت الله الحرام

فسكن معها، وكان شغله الشاغل رحمه الله مساعدتها، وتقديم يد العون لها حيث شهد له الكثير بالبرور منقطع النظير، ولذلك بعد أن اكرمه الله بالعمل في داخل الحرم المكي في صيانة كهرباء المسجد الحرام سعى جاهداً حتى جاء بوالده وزوجة والده الى مكة المكرمة، ليحقق أمنية قديمة لأمه رحمها الله حينما سمته (شملنا)، فحقق الاسم والمسمى جامعاً شمل عائلته في قلب المسجد الحرام، مؤكداً أن الأسماء والألقاب الإيجابية المتفائلة قد يأتي أثرها الطيب ولو بعد حين

ولم يثنيه زواجه عدة مرات، ولم تشغله تحديات الحياة الزوجية، ولم تمنعه مشاغل الأبوة، ولم يحول العمل والدوام بينه وبين شغفه الكبير بخدمة أبويه رافعهما على رأسه، سائراً على خُطى النبي يوسف عليه السلام حينما قال عنه سبحانه وتعالى (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ)، فكانت مكانتهما عالية في قلبه، ولهما الأولوية في جميع حياته عليهم جميعاً رحمة الله

وظل يتعاهدهما بالعناية والاهتمام والرعاية الطبية والمتابعة ومراجعة المستشفيات حتى توفيا في سنوات متقاربة، فصلى عليهما مع جموع المصلين في الحرم المكي، ودفنهما في أماكن متقاربة في مقبرة المعلاة، مؤدياً بذلك جزء من حقهما عليه، ومملوء قلبه بالأحزان الكبيرة عليهما رحمة الله

لقد تعلّق قلبه كثيرا بالحرم المكي الذي عمل فيه لأكثر من عشرون عام، وكونه كان ضمن الشركة المُشغلة لصيانة المسجد الحرام، فقد رُزق بغرفة خاصة بالعمل في منطقة بدروم الحرم، والتي كان يقضي أحيانا فيها بعض الأيام لكي يكون في اقرب نقطة من الكعبة المشرفة

وظل رحمه الله على ذلك العهد بالبيت العتيق يصلي في المسجد الحرام ثلاثة فروض يومياً على الأقل، وتزيد على ذلك في بعض الأيام بحسب أحواله الصحية وانشغالاته العملية والأسرية

وكان يطوف يومياً بالكعبة المشرفة التي من تعلقه الشديد بها دخلها قرابة 40 مرة بفضل الله، وبفضل علاقته المُمتدة من امه رحمها الله بعائلة الشيبي وهم سدنة البيت الحرام، وقد شرفت أنا وأخي مختار ولله الحمد بدخولها مرة واحدة برفقته عليه رحمة الله في شرف نفخر به للأبد

وربى أغلب أبناؤه على حُب الحرم المكي، حيث كنا نرافقه للصلاة فيه، وكنا نرى عن قرب ما يفعل من تلاوة القران الكريم، وأداء شعيرة الطواف اليومي، وغيرها من الدعوات والقربات التي كنا نعيشها معه رحمه الله في أطهر مكان في الكون

ويتضمن هذه الرحلة الدينية اليومية جزء من الترفيه، حينما كنا نذهب الى الفنادق والمقاهي المجاورة للحرم المكي لتناول شيء من الطعام، وبعض الأشربة، واحتساء شيء من الشاهي، مرة وحدنا، ومرة برفقة بعض أصحابه عليهم رحمة الله  

ولم ينكمش رحمه الله عن المجتمع المكي الذي دخل فيه، وتعرف على بدوه وحضره، وعاش مع كافة أطيافه ومذاهبه واتجاهاته، حيث كنا نرافقه الى الكثير من وجهاء مكة المكرمة في جميع المجالات، والذين كانوا يظهرون له الكثير من الاحترام والتقدير، ويتلقونه بحفاوة بالغة، ويقضي معهم أوقاتاً ممتعة.

وكان رحمه الله حريص على حضور دروس علماء المالكية والشافعية، ومجالس السيرة النبوية، وغيرها من المجالس التي يُذكر فيها سبحانه وتعالى، وتُذكر فيها سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ويتدارس فيها الحضور الكريم علوم الفقه والشريعة

وعاش آخر عشرون عام من حياته مع والدتي الفاضلة (خادمة الله) حفظها الله، وكانت حياة عائلية مليئة بالسكنى والسكينة، والمحبة والطمأنينة، والمودة والأريحية في حياة زوجية هانئة، علّمنا فيها رحمه الله اللُطف العائلي، والمبادرة بتحمُّل المسؤولية من خلال زرع قيمة واهمية العمل في قلوبنا في سن مبكرة جداً، وكأنه كان يشعر بأن رحيله قد اقترب عليه رحمة الله

سماني (حمد) وكان يُدللني بلقب (حمدون) ويلحنها بصوته الجميل عليه رحمة الله، وكان يُدلل أختي (مريم) بلقب (قنديلة)، وكان صديق لنا جميعاً، وبهجته تكمن في اجتماعنا على وجبات الغداء والعشاء التي تتخللها بعض الحوارات الجانبية المتنوعة.

سافرت معه في رحلة طويلة وصلت الى شهر كامل بين المنطقة الوسطى والمنطقة الشرقية، وعدنا منها في أواخر شهر رجب، وبعده بشهرين في شهر رمضان انزلقت به قدمه في صحن الكعبة المشرفة، ولأنه كان مصاب بالسكري فلم يتشافى جُرحه رغم انه لم يمنعه من الذهاب شبه اليومي للحرم المكي

وحينما جاء موسم الحج أمرني وأخواني (عبد الله، وشاكر) بالذهاب مع أمي حفظها الله لكي تؤدي مناسك الحج، وأمر بقية العائلة بالذهاب الى بيت أختي (مريم) الذي لم يكن بعيداً عن منزلنا

وظننا حينها أنه لن يذهب الى الحج، ولكنه رحمه الله فاجأنا حينما قرر رغم وضع قدمه أن يؤدي مناسك الحج التي لم يتوقف عن أدائها منذ أن وطأة أقدامه مكة المكرمة، فمضى برفقة صديقه الشريف حسين بن راجح الأمير رحمه الله الى مشعر عرفات كما هي عادة أهل مكة في الحج

وبعد أن أتم مناسكه برمي جمرة العقبة، وأداء طواف الافاضة والسعي عاد الى المنزل صباح يوم عيد الأضحى الذي امرتني فيه امي حفظها الله بالذهاب الى مكة للاطمئنان عليه رحمة الله، وحينما وصلت الى المنزل كانت المفاجأة انني وجدته مازال يلبس ثياب الاحرام، وابتسم لي رحمه الله قائلاً ببهجة غامرة: (لقد حجيت ولله الحمد)

قضيت انا واخي مختار معه ذلك اليوم حيث افطرنا وتعشينا معاً، ولم نكن نعلم انه "العشاء الأخير"، والفراق الجسدي الأبدي، وعندما عرضنا عليه البقاء معه بشَّرنا بانه بصحة وعافية، وأصّر علينا ان نذهب الى أمي حفظها الله للاطمئنان عليها، وأكد علينا انه يجب علينا البقاء معها حتى تُتم كامل مناسكها

ومضى يمشي معنا - لابساً لباس الاحرام لم يتخلص منه رغم التحلل الأصغر - حتى أوصلنا الى الباب وهو في أتم الصحة والعافية، وقد وفرنا له جميع طلباته من البقالة، وعند الباب قبلنا يده، ومضينا ولا ندري عن قصة الأقدار، حيث بقي رحمه الله في المنزل، وتوفي تقريباً كما قال الطبيب الشرعي في صباح اليوم التالي عليه رحمة الله، وكان كفنه في كيس أصفر وجدناه عند رأسه عليه رحمة الله.

لم يكن هرماً رحمه الله حيث توفي تقريباً في مطلع الستينات من عمره، لقد توفي واقفاً بكل صحة وعافية، وقصة وفاته رحمه الله سارت بها الرُكبان، حيث كان الكثير يقولون لنا: (نحن نُقدم لكم التهنئة وليس التعزية، فأبوكم مات حاجاً، وما أجملها من خاتمة حسنة، يتمناها كل مسلم على وجه الأرض) عليه رحمة الله. 

وخاتمته الحسنة تشبه خاتمة أمه فاطمة الأبييرية التي توفيت اثناء صلاتها وهي ساجدة بين يدي ربها عليها رحمة الله، في خاتمة حسنة يتمناها كل شخص.

كنت حينها تقريباً في السابعة عشر من عمري وكنت للتو بدأت أفهم واقع الحياة، وفي قلب البدايات، وفي وسط مرحلة المراهقة حيث باحة الحيرة والتيه؛ اختار الله سبحانه وتعالى ابي الى جواره، في صدمة من أكبر صدمات عمري، حيث تمنيت لو عشت معه رحمه الله جميع أعوام عمري، ولكنها ارادة الله سبحانه وتعالى ولا راد لقضائه

وسلوتنا في الخاتمة الحسنة التي أكرم بها سبحانه وتعالى والدي عبد العزيز الكنتي رحمه الله، وفرحتنا في الذكر الحسن الذي يتذكره الناس به، والجميع يثني على تواضعه وكرمه، والكل يشهد له بالخير والتقوى، وزيارة الحرم المكي الذي أصبح له فيه مكان شهير يعرفه الكثير، واذا أحبوا لُقياه وجدوه فيه قبل زمن أجهزة هواتف الجوال.

ورغم أنني كتبت هنا قُرابة 1250 كلمة ولكنني اشعر أنني ما زلت في البداية، وأود أن اكتب عنه رحمه الله الكثير والكثير، ولكن ربما في المستقبل يكون ذلك بإذن الله.

وأحببت عبر هذه السطور تسليط الضوء على جوانب من حياته رحمه الله لتذكركم به بعد عشرون عاماً من رحيله المؤلم وفقده المُر، فتدعون له بارك الله فيكم وأطال في أعماركم بالرحمة والغفران وجنة الرضوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.


ابنه المُحب له/ حمد عبد العزيز الكنتي









 

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

محطات من حياة الوجيه والأكاديمي الدكتور أحمد فال الكنتي رحمه الله

محطات من حياة الفقيد محمد محمود الهاشمي رحمه الله