نبع الحنان ..

توفى والدي قبل عشر سنوات وقامت امي بإكمال مسيرة النماء في اسرتنا الصغيرة  .

كانت أمي حينها لم تبلغ الاربعين عاما وكان بإمكانها أن تتزوج ولكنها صامت عن الزواج لأجلنا ، ولكي لا يأتي رجل ما يزعجنا ، او يؤلمنا ،  ولا يزال صدى هذه التضحية يدور في اعماقنا ، ويشعرنا بعوالم من الافراح ، وجنائن من الامتنان .

واستمرت امي في رحلة النضال والمتابعة لكل تفاصيل حياتنا فهي تسهر من اجلنا ، وتحمل كل همومنا ، وينتابها القلق اذا نحن تأخرنا .. إنها وبحق ضحت من اجلنا  .

يا إلهي أي تضحية فعلت امي فبعد وفاة ابي (رحمه الله ) اصبحت هي الام والأب في وقت واحد ، فتعايشت مع مصطلحاتنا ، واقتربت من تفكيرنا ، وأصبحت تتحدث بلغتنا .. ولان جميع اسرتنا هم اطفال ذكور لهم توجهاتهم الخاصة والتي وعتها امي برشاقة الامومة ، وبدون دورات ، وبدون تعليم كثير استطاعة ان تكون منا ، وفينا ، ومعنا ، بكل ما فيها من شغف الامومة وعنفوان المحبة .

كانت تنام معنا في غرفة واحدة ، وتروي لنا القصص وبدون دورات ولا مهارات القاء كانت هي ساحرة في القائها ، وكلما ظنت اننا نخفت نحو المنام ، كانت هي تخفض من صوتها حتى يتماشى مع لحظات الدخول في النوم ، وحتى يرخى الوعي علينا سدوله .. فصوتها الهادئ والعميق يضرب في اعماقنا فننام في سلام ومحبة .

وقد سألني شخص قبل فترة قصيرة : لماذا انت وإخوتك هادئين ؟ فقلت له لان امي في طفولتنا ومراهقتنا كانت تروي شغفنا بالقصة الهادئة ، والسرد الحاني ، واللطف الكبير ، والحب المثير ، فكنا عناوين هدوء تمشي على وجه الارض .

كنا ولا زلنا نرى تواضع نجاحاتنا في جمال عيناها ، ونبهر بروائع حضورها في نظراتها البراقة ، ونستمع لحبها لنا في دعواتها الخاشعة ، فنخرج الى هذا العالم الفسيح وكأننا طيور من حب ترفرف في سماوات الحياة ، لنعود حاملين معنا كل حظوظ الدنيا وهبات السماء  .

كانت تربيتها لنا مبنية على ثقة ثابتة ، ومنطق رباني راسخ ، حيث تتركنا نخرج للمدرسة ، والتحفيظ ، والعب .. ولكن بعد كل خروج لنا تقف بجلالها عند النافذة ، وتقرأ علينا دعوات الحفظ بكل حنانها المتدفق ، لنركض على ثرى الحياة معززين بالتأييد الرباني ونكون شعلة عطاء لا تنطفي  .

كانت ولا زالت هادئة ، وهدوئها انعكس علينا ، فتعلمنا منها الهدوء والثبات حتى في اعمق الازمات ، فلا شيء يستحق ان يوقفنا ، وطالما اننا احياء ونمتلك كل القوى والقدرات فسنظل نركض حتى تنتهي الحياة . وهنا اتذكر بيت للشاعر ولد بلعمش يقول فيه :
قدر علينا ان نسير وربما .. تتوقف الدنيا ونحن نسير  .

يقال انك مهما قرأت ومهما تعلمت فيبقى توفيق الله هو الاساس ، وانك لا تهدي من احببت ، فأمي بالرغم انها لم تأخذ دورات في التربية ، وكان تعليمها الى نهاية المرحلة المتوسطة فقط ، ومع ذلك ربتنا على اسس تربوية عميقة تنبثق من المبادئ والقوانين الكونية ، ولان امي لا تؤمن إلا بالتطبيق ، فطبقت وأحسنت التطبيق .

اجمل شيء ربتنا عليه امي هو العمل ثم العمل ثم العمل فكانت تشجعنا على العمل من طفولتنا ، وكان لذلك التشجيع على العمل الاثر الكبير في بلورة شخصياتنا وتنمية ذواتنا ، ومهما بلغت بنا الحياة فلن نوفيها حقها من الشكر والامتنان .

ولان تفكيرها كله فينا حتى في احلامها كانت ترانا ، وكلما تراه لنا يتحقق ، وكان الكون ينتظر امنياتها ليتظافر بكل قواه ويحقق لنا المستحيل ببركات السماء ورغبة قلب امي الصالح .

وماذا بعد كيف لي ان اشكرك يا أمي ، فمهما كتبت اجد طفولة حروفي لا تصف جمالك وبساطة كلماتي لا تستوعب عطائك ، فأنت نبع الحنان الصافي ، وتحت قدميك جنة الخلد ، وبك ، ومعك ، ولأجلك تستمر الحياة .

حمد عبد العزيز الكنتي



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رثاء عن الراحل معيض سعدون العتيبي رحمه الله

قصتي مع مرض السكر! #حمد_الكنتي

ملامح من حياة المرحوم الشيخ احمد اباتي رحمه الله